نحو تفكيك الفكر المتطرف

Transkript

1 قضايا التجديد نحو تفكيك الفكر المتطرف الخلل في فهم القرآن الكريم تمهيد وتقسيم: ابتليت األمة اإلسالمية والعالم أجمع في الثمانين عام ا الماضية بجماعات وتيارات انتسبت لإلسالم وحاولوا أن يفرضوا فهما لنصوص الشرع الشريف يخالف ما كان عليه السواد األعظم من المسلمين فأساءوا للدين أ.د/ شوقي عالم ( *( وشوهوا صورته ليس فقط بأفهامهم السقيمة بل ألنهم بنوا على ذلك الفهم اإلرهاب واإلرجاف وحمل السالح والتعدي على دماء األبرياء واستباحة أعراض الناس حتى صدوا كثيرا من الناس عن دين رب العالمين فكانوا ورثة الخوارج الذين توعدهم الشرع على لسان المصطفى ﷺ بالوعيد والعذاب يوم القيامة. وكان الظرف التاريخي الذي نشأت فيه هذه األفكار ظرف ا عصيب ا دب فيه الضعف إلى جسد األمة اإلسالمية فسقطت الخالفة العثمانية وطال عهد االحتالل وضعفت كثير من المدارس العلمية القائمة بواجب تدريس العلوم الشرعية وتخريج العلماء والمجتهدين وات سع الفارق الحضاري بين المسلمين وبين الغرب فظهر بعض من تحم س إلعادة مجد المسلمين وحضارتهم دون إدراك ووعي مع حماس زائف واندفاعية طائشة وعدم تبحر بأدوات فهم الشرع ومقاصده فألصقت بالشرع الشريف ف هوم وأفكار خاطئة في غاية الخطورة ابتداء من حسن البنا الذي أسس جماعة اإلخوان سنة 1928 م وهو ال يزال حديث السن ابن اثنين وعشرين سنة لم تكتمل آلته لفهم علوم الشرع ولم يتخرج على يد المتضلعين من علماء األزهر في مصر مرورا بتنظيم الجهاد وجماعة التكفير والهجرة والجماعة اإلسالمية وتنظيم القاعدة وغيرها وانتهاء بداعش فأحدثوا ما أحدثوا من أفكار كانت سبب ا في كثير من الوبال على األمة اإلسالمية وصورة اإلسالم في الشرق والغرب بل على العالم أجمع. )*( مفتى الديار المصرية. magazine.azhar.eg 2213

2 الشريعة اإلسالمية وعلومها ومع تتبع وقراءة أفكار هذه الجماعات على اختالف زمن نشأتها وتنوع قادتها وجدنا أن غالب ما تميزت به أفكارهم أنها راجعة إلى خلل في فهم القرآن الكريم وخلل في فهم السنة النبوية المطهرة وخلل في فهم السيرة النبوية وإلى التشو ه الحاصل عندهم لمفاهيم الجهاد والوالء والبراء وتطبيق الشريعة واألمة وكذا عدم االلتزام بالضوابط والقواعد الفقهية وعدم إحاطة بمقاصد الشريعة العامة والخاصة والجزئية التي استنبطها األئمة المجتهدون من مسلك الشارع في األحكام كل هذا مع اجتماع لعدد من المنطلقات الخاطئة والمشكالت النفسية في أصحاب هذا الفكر كالدعوة إلى الكراهية والصدام والصراع مع المخالف والشعور باالستعالء والتميز عن جمهور المسلمين وااللتباس الشديد في فهم الواقع عندهم واالندفاع المتهور مما أدى إلى ظهور هذا النموذج المشو ه الذي خرج للعالم اليوم عن رؤية هؤالء المتطرفين الشاذة للدين اإلسالمي وأحكامه وما تبعه من آثار في غاية الخطورة والسوء. وقد رأينا أن نبرز في مقاالتنا هذه أهم هذه األصول الباطلة والمنطلقات الخاطئة التي انطلق منها المتطرفون في فهمهم للشرع وأحكامه ونرد عليها في بيان واضح كي نزيل هذا الغبار الذي تكو ن على عقول بعض شبابنا اليوم الذي اغتر بأفكار هؤالء. فنبدأ ببيان سقيم فهمهم في االستدالل بالقرآن الكريم ونتبعه ببيان الفاسد من فهمهم للسنة المطهرة والسيرة النبوية ومقاصد الشريعة والقواعد الفقهية وكذا الخلل في المفاهيم المستقرة لدى علماء األمة. واهلل الموفق والمعين. بيان فهمهم المغلوط آليات القرآن الكريم وذلك فيما يأتي: 1- بطالن فهمهم آلية الحاكمية: تعتبر مسألة الحاكمية هي المسألة األم التي انطلقت منها غالبية التيارات المتطرفة والجماعات اإلرهابية على مر الزمان وخاصة في العصور المتأخرة بحيث صارت هي األصل التي كان عليه أغلب توهمات تلك الجماعات وتفر ع عنها كثير من األحكام الباطلة مثل تكفير الحك ام والش عوب وقضية جاهلية المجتمع التي ظهرت بجالء عند سي د قطب وقضية حتمية الصدام وغيرها ثم األخطر أنه ترت ب على هذه األصول والفروع من األفكار والتوهمات التي د و نت واعتنقت أن ت م تحويلها إلى سلوك ومنهج حياة وتطبيقات انتهجت العنف وحملت السالح وعادت األمة كلها: قادة وأفرادا ظ ن ا منهم وقوع األمة في الكفر استنباط ا من قوله - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ )المائدة: 44(. وف ي تقرير فهمهم الفاسد لآلية الشريفة يقول سيد قطب في تفسيره )في ظالل القرآن( )2/ 829(»ذلك أن الذين ال يحكمون بما أنزل اهلل يعلنون رفضهم أللوهية اهلل- سبحانه- ورفضهم إلفراد اهلل- سبحانه- بهذه األلوهية يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق أخذا من رفضهم أللوهية اهلل- حين يرفضون حاكميته المطلقة وحين يجعلون ذو القعدة 1438 ه - أغسطس 2017 م 2214

3 نحو تفكك الفكر المتطرف ألنفسهم خاصة األلوهية األولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به اهلل«. اه ويستمر على الفهم نفسه محمد عبد السالم فرج أمير تنظيم الجهاد فيقول في كتابه )الفريضة الغائبة( ص 37:»واألحكام التي تعلو المسلمين اليوم هي أحكام الكفر بل هي قوانين وضعها كفار وسي روا عليها المسلمين ويقول اهلل -عز وجل- في سورة المائدة: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ )المائدة: 44( فحكام هذا العصر في ردة عن اإلسالم تربوا على موائد االستعمار سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية فهم ال يحملون من اإلسالم إال األسماء وإن صلى وصام وادعى أنه مسلم«اه. فهذا نموذج من أفكار هؤالء الذين يكفر ون المسلمين في تسرع وجهل ألنهم يؤمنون بأن أفكارهم قبل النصوص الشرعية فال يتقي دون في فهم معاني نصوص الوحي بأية قواعد أو علوم لكنه التجرؤ الشديد الستنطاق اآليات بما ليس مقصودا للحق - سبحانه - انطالق ا من الحماس الزائف واالندفاعية الطائشة التي تخلقت بها هذه الجماعات وأفرادها في السنوات الماضية. 2- الخطأ في الفهم وف ي التنزيل: من القواعد المستقرة في فهم النص الشرعي لزوم فهمه وفق قواعد اللغة التي نزل بها والقرآن نزل بلغة العرب فيلزم فهمه بقواعدها فضال عن مراجعة مقصود الشارع أو ما يمكن أن يعبر عنه بماذا قال ولماذا قال فالجواب عن السؤالين يلخص قضية فهم النص مع مراجعة مقصود الشارع فاألول متعلق بقواعد اللغة ودالالت األلفاظ والثاني متعلق بالعلل والمعاني. هذا أوال وثانيا يلزم تنزيل النص على واقع الناس في الحاالت المعينة والمحددة مراجعة قواعد تطبيق النصوص وتنزيلها على الواقع من لزوم مراجعة الحكم الوضعي من وجود األسباب والشروط وانتفاء الموانع وهذا كله مفقود في فهم هذه الفئة المنحرفة الضالة وبيانه كما يأتي: 3- أوال: الخطأ في فهم النص: أما الخطأ األول واألكبر فكان في فهمهم لهذه اآلية من كتاب اهلل وهي قوله تعالى: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ وحملهم لها على أن كل من لم يعمل بنص من النصوص الشرعية أو حكم من األحكام الفقهية فقد كفر باهلل وخرج من دين اإلسالم. والذي عليه جمهور العلماء من هذه األمة سلف ا وخلف ا في فهم هذه اآلية الشريفة أن الكفر هنا ليس على ظاهره. لكن إطالق القول بتكفير كل من لم يحكم بغير ما أنزل اهلل هو قول الخوارج ودأبهم ومن اشتهوا تكفير المسلمين بالظن أو الهوى دون إرجاع متشابه اآليات إلى محكمها. قال اإلمام الجصاص في بيان ذلك في )أحكام القرآن( 549/2:»وقد تأولت الخوارج هذه اآلية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل اهلل من غير جحود لها وأكفروا بذلك كل من عصى اهلل بكبيرة أو صغيرة فأداهم ذلك إلى الكفر والضالل بتكفيرهم األنبياء بصغائر ذنوبهم«. اه magazine.azhar.eg 2215

4 الشريعة اإلسالمية وعلومها ويؤكد على هذا المعنى الحافظ ابن عبد البر في كتابه )التمهيد( )16/17 ط. وزارة عموم األوقاف والشئون اإلسالمية المغرب( عندما قال:»وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بهذه اآلثار ومثلها في تكفير المذنبين واحتجوا من كتاب اهلل بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز وجل: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ. اه وكذلك قال اإلمام أبو المظفر السمعاني في )تفسيره( )42/2 ط. دار الوطن الرياض(:»واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه اآلية ويقولون: من لم يحكم بما أنزل اهلل فهو كافر وأهل السنة قالوا: ال يكفر بترك الحكم ولآلية تأويالن: أحدهما معناه: ومن لم يحكم بما أنزل اهلل رد ا وجحدا فأولئك هم الكافرون. والثاني معناه: ومن لم يحكم بكل ما أنزل اهلل فأولئك هم الكافرون«. اه وقال اإلمام فخر الدين الرازي في )مفاتيح الغيب( )367/12(:»المسألة الثانية: قالت الخوارج: كل من عصى اهلل فهو كافر. وقال جمهور األئمة: ليس األمر كذلك أما الخوارج فقد احتجوا بهذه اآلية وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل اهلل فهو كافر وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل اهلل فوجب أن يكون كافرا«. اه. وقال ابن تيمية في )منهاج السنة النبوية( )131/5 ط. جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية(:»قال تعالى: ۈ ۇٴ ۋ ۋ ۅ ۅ ۉ ۉ ې )النساء: 65( وهذه اآلية مما يحتج بها الخوارج على تكفير والة األمر الذين ال يحكمون بما أنزل اهلل ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم اهلل«. اه وقال اإلمام الشاطبي في )االعتصام( )692/2 ط. دار ابن عفان السعودية(:»ومما يوض ح ذلك ما خر جه ابن و ه ب عن ب كير أنه سأل نافعا: كيف رأ ي ابن عمر في الحرورية قال: يراهم شرار خلق اهلل إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فس ر سعيد بن ج بير من ذلك فقال: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول اهلل تعالى: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ )المائدة: 44 ( ويقرنون معها: ڀ ڀ ڀ ڀ ٺ ٺ )األنعام: 1 ( فإذا رأوا اإلمام يحكم بغير الحق قالوا: )قد كفر ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك فهذه األمة مشركون فيخرجون فيقتلون ما رأيت ألنهم يتأو لون هذه اآلية. فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل القرآن فيه«. اه فانظر إلى أقوال علماء األمة كيف تتابعت أقوالهم في وصف من يحتج بهذه اآلية على إطالق كفر من لم يحكم بما أنزل اهلل أنه من الخوارج لتعلم أوال من ينتسب إليهم هؤالء المتطرفون اليوم. أما هذه اآلية فال تدل على ما يدعيه هؤالء بل الحق فيما ذهب إليه األئمة المتبوعون المجتهدون من هذه األمة أنه من الكفر األصغر أو المعصية. فقد بين ذلك اإلمام الطبري في تفسيره )جامع البيان( )357/10( فقال:»عن ابن عباس قوله: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ذو القعدة 1438 ه - أغسطس 2017 م 2216

5 نحو تفكك الفكر المتطرف ھ قال: من جحد ما أنزل اهلل فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم ]به[ فهو ظالم فاسق «. اه وقال اإلمام البغوي في )تفسيره( ]55/2 ط. إحياء التراث[: "روي عن البراء بن عازب -رضي اهلل عنه- في قوله: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ و الظ ال م ون و ال ف اس ق ون كلها في الكافرين وقيل: هي على الناس كلهم وقال ابن عباس وطاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كافر وليس كمن كفر باهلل واليوم اآلخر قال عطاء: هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وقال عكرمة معناه: ومن لم يحكم بما أنزل اهلل جاحدا به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه اآليات فقال: إنها تقع على جميع ما أنزل اهلل ال على بعضه وكل من لم يحكم بجميع ما أنزل اهلل فهو كافر ظالم فاسق فأما من حكم بما أنزل اهلل من التوحيد وترك الشرك ثم لم يحكم ببعض ما أنزل اهلل من الشرائع لم يستوجب حكم هذه اآليات. وقال العلماء: هذا إذا رد نص حكم اهلل عيانا عمدا فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فال. اه وقال اإلمام الرازي رحمه اهلل في )تفسيره( )368/12(:»قال عكرمة: قوله: ە ە ہ ہ ہ ہ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه أما من عرف بقلبه كونه حكم اهلل وأقر بلسانه كونه حكم اهلل إال أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل اهلل تعالى ولكنه تارك له فال يلزم دخوله تحت هذه اآلية وهذا هو الجواب الصحيح واهلل أعلم«. اه وقال اإلمام القرطبي - رحمه اهلل - في تفسيره )الجامع ألحكام القرآن( )190/6 ط. دار الكتب المصرية(: قوله تعالى: ە ە ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ و الظ ال م ون و ال ف اس ق ون نزلت كلها في الكفار ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء وعلى هذا الم عظ م. فأما المسلم فال يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار أي ومن لم يحكم بما أنزل اهلل ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول ﷺ فهو كافر قاله ابن عباس ومجاهد فاآلية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل اهلل من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحال له فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه ر اك ب محر م فهو من فساق المسلمين وأمره إلى اهلل تعالى- إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل اهلل فقد فعل فعال يضاهي أفعال الكفار. وقيل: أي: ومن لم يحكم بجميع ما أنزل اهلل فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فال يدخل في هذه اآلية والصحيح األول«. اه فهذه أقوال العلماء المعتبرين في هذه اآلية التي تعلق بها أرباب الفكر التكفيري فهي ليست على ظاهرها كما في الفهم الفاسد. وعليه فمن أقر بأن الشريعة اإلسالمية مصدر للقوانين ولم ينكر معلوما مقطوع ا من الدين بالضرورة ومع ذلك فقد ترك الحكم بغير ما أنزل اهلل لمعنى غير الكفر فال يخرج من اإلسالم. ثم ينبغي أن يعلم أن مفهوم الحاكم قد تغير في هذا الزمن في ظل الدولة الحديثة ولم تعد سلطة magazine.azhar.eg 2217

6 الشريعة اإلسالمية وعلومها رئيس الدولة مطلقة تتيح له إطالق يده في القضاء أو التشريع ووضع القوانين بل صارت سلطته راجعة إلى الدستور والقوانين المنظمة في هذا الصدد. فتشريع القوانين وسنها صار راجعا إلى السلطة التشريعية أو البرلمان وهو الم كو ن من نواب يختارهم الشعب ليمثلوه في التشريع والرقابة. والفصل بين المتنازعين وإصدار األحكام أصبح راجعا للسلطة القضائية والمحاكم المختصة بالفصل في القضايا وال يمكن للحاكم أو لرئيس الدولة أن يتدخل في عمل هاتين السلطتين فيما يعرف في الدولة الحديثة باسم )مبدأ الفصل بين السلطات(. وعليه فإن صورة الحاكم الموجودة في الموروث التاريخي اإلسالمي قد تغيرت لتغير الواقع الذي أثر في تكييف الدولة وعالقة الحاكم بالمحكومين والمؤسسات فتوزعت اختصاصاته -التي كانت له من قبل -على عدد من الجهات والمؤسسات. فالتشريع أو القضاء بهذه األحكام في هذه الحاالت إنما يكون راجعا للبرلمان وللمحاكم وليس لرئيس الدولة الذي يمارس مهام السلطة التنفيذية ويشرف على الفصل بين السلطات ويرجع القول في الحكم بغير ما أنزل اهلل إلى ما ذكرناه فهذه صورة من صور االلتباس عندهم في فهم الواقع كما بينا من قبل. 4- ثانيا: الخطأ في فهم الواقع: فهم الواقع واإلحاطة به ركن ركين في مسألة إنزال النص على الوقائع المتنوعة باختالف الزمان والمكان واألشخاص واألحوال. والعجيب أن هؤالء المتشددين المنحرفين قد وقعوا في الخطأ في هذا الجانب فضال عن خطئهم في فهم النص كما بينا. فمن صور االلتباس الشديد عند هؤالء المتطرفين في فهم الواقع أنهم ظنوا أن الدول اإلسالمية- ومنها مصر مثال - ال تحكم بما أنزل اهلل بسبب عدم العمل ببعض الحدود كحد الزنا وحد السرقة وأن القوانين المعمول بها إنما هي من وضع البرلمانات وليست من وضع الشرع الشريف ومن ثم يكون الواضع لها والذي رضي بها والمطبق لها كل أولئك خارجين عن دائرة اإلسالم ألنهم ليسوا حاكمين بما أنزل اهلل تعالى ومن لم يحكم بما أنزله فهو كافر بنص اآلية كما زعموا. والواقع أن عدم العمل بالحدين السابقين من قبل القضاء إنما كان إعماال للقاعدة النبوية الشريفة»ادرءوا الحدود بالشبهات«وعمال بتطبيق كثير من مجتهدي هذا العصر لمفهوم زمان الشبهة وزمان الشبهة ال ي قام فيه الحد على المقترف للج رم وليس هذا إسقاط ا للحد ولكنه إيقاف لشبهة في الزمان طارئة على المحل تدرأ الحد. ثم إن الحق أن القوانين الحالية المعمول بها في مصر وفي أكثر الدول العربية في جملتها ال تخرج عن اآلراء المنقولة من مذاهب المجتهدين في الفقه اإلسالمي وكون صائغي القوانين قد استقوا بعض صيغ القوانين الموضوعة من صياغات القوانين الغربية فإن هذا ال يخرج القانون في لبه عن كونه م نضوي ا تحت رأي من اآلراء الفقهية ألن العبرة في هذه القوانين بالمضامين ال باأللفاظ ذو القعدة 1438 ه - أغسطس 2017 م 2218

7 نحو تفكك الفكر المتطرف كما ذكرنا ذلك بالتفصيل في مقاالتنا عن تطبيق الشريعة اإلسالمية في مصر والتي نشرت في هذه المجلة الموقرة القديرة إال أن هؤالء المتطر فين لقلة علمهم بالقواعد القانونية وتفرعها من النصوص والقواعد الشرعية حكموا أن الحكام في زماننا ال يحكمون بما أنزل اهلل وي ت ب ع هم في ذلك الحكم جموع الناس الذي رضوا بذلك وتحاكموا إلى هذه القوانين فرموا الناس بالكفر استنباط ا من ظاهر هذه اآلية. فهذا هو الخطأ في تنزيل اآلية على واقع المجتمعات اإلسالمية اليوم. وبعد ذلك كله فإنهم جهلوا أيضا شروط الحكم بالكفر على الناس فإن تكفير المعين ال يجوز سواء كان حاكم ا أو غيره إال بعد أن تتحقق شروط وتنتفي موانع كاإلكراه أو الجهل أو التأويل وغيرها فأهملوا الحكم الوضعي الذي يلزم لجعل الحكم التكليفي مطبقا على الوقائع بل من ثبت إسالمه بيقين لم ي ز ل عنه بالشك وال يزول عنه وصف اإليمان وأحكامه المترتبة عليه إال بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. وقد كان منهج األئمة التفرقة بين الكفر وبين المؤمن الذي تلب س بف عل من أفعال الكفر فاإلمام أحمد بن حنبل - رحمه اهلل - كان يقول:»من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر«والذين كانوا يقولون بذلك في زمنه لم ينقل عنه أنه قال بكفرهم تفرقة منه بين القول والقائل أو بين الفعل والفاعل. بل ن قل عنه أنه استغفر لهم بعد مماتهم وباالتفاق ال يجوز االستغفار للكفار فلو كانوا كفار ا عنده ما استغفر لهم إضافة إلى علمه أنهم ما قالوا ذلك إال جهال. وصنيع األئمة -رضي اهلل عنهم- كان مستنبط ا من فعل الصحابة -رضوان اهلل عليهم- فعلي بن أبي طالب -رضي اهلل عنه- وهو أمير المؤمنين لما خرجت عليه الخوارج قاتلهم ولم يكفرهم ولم يستحل أموالهم وذراريهم. فروى عبد الرزاق في مصنفه لما قتل علي -رضي اهلل عنه- الحرورية قالوا: من هؤالء يا أمير المؤمنين أكفار هم قال:»من الكفر فروا«قيل: فمنافقون قال:»إن المنافقين ال يذكرون اهلل إال قليال وهؤالء يذكرون اهلل كثيرا«قيل: فما هم قال:»قوم أصابتهم فتنة فع م وا فيها وص م وا«. وروي بلفظ»إخواننا بغوا علينا«. )البداية والنهاية 591/10 ط. دار هجر(. وقد استحل قدامة بن مظعون -وهو ممن حضر بدرا -الخمر متأو ال في زمن عمر -رضي اهلل عنه- ولم ي ك ف ر بذلك. روي عبد الرزاق في )مصنفه( عن ابن ج ريج قال: سمعت أيوب بن أبي تميمة يقول:»لم ي ح د في الخمر أحد من أهل بدر إال قدامة بن مظعون«. قال ابن قدامة الحنبلي في )المغني( )12/9 ط. مكتبة القاهرة(:»قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحال لها فأقام عمر عليه الحد ولم ي ك ف ر ه. وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة معه شربوا الخمر بالشام مستحلين لها مستدلين بقول اهلل تعالى: ڎ ڎ ڈ ڈ ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ڳ ڳ ڳ ڳ ڱڱ ڱ ڱ ں )المائدة: 93( فلم يكفروا وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم magazine.azhar.eg 2219

8 الشريعة اإلسالمية وعلومها عليهم الحد. فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم. وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله ال يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك". وقال الحافظ ابن حجر في )فتح الباري( )277/12 ط. دار المعرفة( عند شرحه قول أبي بكر -رضي اهلل عنه-»ألقات ل ن من فرق بين الصالة والزكاة«: "والمراد بالفرق من أقر بالصالة وأنكر الزكاة جاحدا أو مانعا مع االعتراف وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد حقيقة وفي حق اآلخرين مجاز تغليبا وإنما قاتلهم الصد يق ولم يعذرهم بالجهل ألنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم«. وبهذا يتبين أن األئمة ي ط ل قون الكفر وال يريدون فاعله بل ي فر قون بين القول والقائل من حيث داللة الحكم عليه في ذلك حتى يتبين األمر. فكل هذه القواعد واألحكام قد جهلها هؤالء المتطرفون ولم يراعوا شيئا منها وما زالت أياديهم تعبث بدماء الناس وأفكارهم وأقالمهم تتعدى على حمى القرآن الكريم بالتحريف لمعانيه والتأويل الباطل آلياته مع خطأ تنزيل ما فهموه منه على واقعنا اليوم وحسبنا اهلل ونعم الوكيل. ذو القعدة 1438 ه - أغسطس 2017 م 2220